مقدمة
إن عشرين سنة قضيتها أُشرف على المناهج وتطبيقها في علوم اللغة العربية إذ كنت أشغل كرسيها في جامعة دمشق مع قيامي فيها بتدريس النحو والصرف، ثم انتدبت لتدريس هاتين المادتين في الجامعة اللبنانية وجامعة بيروت العربية، وكنت خلال ذلك على اتصال بمناهج هذه المادة في الجامعات المصرية والعراقية ومستوى خريجيها.. إن كل ذلك جعلني موقناً بأمرين:
1- لم يعد يقبل في هذا العصر عرض القواعد ف الجامعات دون مناقشة ما تستند إليه من شواهد، لأن الشواهد روح تلك القواعد، تضفي عليها حياة ومتعة وأصالة؛ وعلى هذه المادة في الجامعات أن تكون ثقافة شواهد أكثر مما هي ثقافة قواعد.
2- لم ينجح وضع المصادر القديمة التي ألفت لغير هذا الزمان في أيدي الطلاب أول ما يستقبلون تحصيلهم الجامعي، فلا (شرح شذور الذهب)، ولا (شرح ابن عقيل على الألفية) ولا أمثالهما قامت بما تُوخُيِّ منها، إذ كانت جميعاً إحدى حلقات سلسلة كان يتدرج فيها طالب العلم قبل مئات السنين. أما اليوم فيدرس الطالب الثانوي مادة القواعد العربية في كتب حديثة خفيفة يراعى فيها تسلسل مخالف للتسلسل القديم، وأساليب حديثة متطورة لم يعهدها الناس من قبل.
لذلك اضطررنا - بعد تدريسنا في هذه الكتب بعض الوقت - أن نرفعها من أيدي طلابنا في السنة الجامعية الأولى على الأقل، وأن ننخل مادتها ونفرغها في أسلوب حديث سهل منسق بحيث يستوعب الطالب مادة العلم ويتذوقها بعد أن كان يشقى باشتغاله بحل عبارة المؤلف عن هضم المادة نفسها؛ حتى إذا ملك هذه المادة في السنة الأولى أو في السنتين الأوليين، وضعنا بين يديه ما شئنا من كتب القدماء في السنتين الثالثة والرابعة وقد اشتد عوده، وأحاط علمه بأكثر محتوياتها.
* * *
كنت على أن أسلك مع طلابي في لبنان خطة حمدت أثرها في جامعة دمشق: أجعل بحوث المنهاج شركةً بيني وبين الطلاب، أُلقي عليهم بعضها على نسق مختار ويحضّرون هم عليه بقية المنهاج في مستوىً وسط بين مواد كتابين: (قواعد اللغة العربية لحفني ناصف) و(جامع الدروس العربية للغلاييني) مع عناية بالشواهد ليست في الكتابين، فيكتسبون بذلك مهارة في التمييز بين الخطوط العريضة الأساسية لبحث ما وخطوطه الثانوية فيستغنوا عن تفاصيل وتفريعات لا يضرهم تأخير العناية بالصحيح منها إلى مرحلة قادمة؛ لكني فوجئت بواقع يختلف كل الاختلاف عما قدّرت لأن أكثر الطلاب في لبنان إما موظفون وإما منتسبون لا يستطيعون حضور المحاضرات لتفرقهم في بلدان شتى، يتعذر عليهم البحث في مصادر متنوعة واستخلاص زبدة منها تفصّل على الخطة المرسومة مما جعل طبع كتاب ملائم لهم أمراً لا مندوحة عنه.
جريت في تفصيل مواد الكتاب على خطة غير بعيدة فعنيت بالشواهد وانتقيتها بليغة من عيون كلام العرب في عصر السلامة، تنمية لملكة الدارس وتوسيعاً لآفاقه في إدراك أحوال أمته، لكون هذه الشواهد مصورة أحوال مجتمعات أصحابها أصدق تصوير، تصويراً لا نجده - بهذه الدقة والصفاء - حتى في كتب التاريخ نفسها، وهي متى استوعبت أعْوَد على الملكات من كثير من القواعد المحفوظة والتعليلات المكلفة. وجنبت الدارس الأقوال المرجوحة والمذاهب الضعيفة، مختاراً ما ثبتت صحته على الامتحان.
ثم رأيت - لطبعتنا الأخيرة هذه - الجمع بين مناهج الجامعات في الأقطار العربية مع إضافة مباحث ناقصة لم ينص عليها المنهاج اللبناني مثلاً مع ضرورتها، مراعاة لمناهج بقية الجامعات العربية، وليكون بيد المتعلم مرجع متكامل في القواعد العربية (نحوها وصرفها وإملائها) فلا يفقد فيه شيئاً ذا بال.
أسأل الله أن ينفع بما أقدم من جهد، وأن يجعلنا جميعاً من سدنة هذه اللغة الكريمة، وأهلاً للتشرف بخدمتها وهو حسبنا ونعم الوكيل.
6ذي القعـــدة 1390هـ
2 كانون الثاني 1971م
سعيد الأفغاني
سيجد الدارس بعد هذه الكلمة ضوابط في مناقشة الشواهد ودرجة الاحتجاج بها ومتى تقبل وتبنى عليها الأحكام ومتى ترد.
|