أسواق متفرقة في بيروت بين قديمها وجديدها     

 

لا بد من الإشارة إلى أن بيروت شهدت وجود بعض العاملين في المهن المتنقلة منها على سبيل المثال: المجلّخ ، الذي كان يجلّخ ويشحذ السكاكين والمقصات، والمبيّض الذي كان يبيّض ويلمّع الأواني المنزليّة، بالإضافة إلى باعة السوس والتمر هندي والجلاب.

 إن بيروت القديمة كما عرفها آباؤنا زالت ولن تعود، وبيروت الحديثة كما يعرفها أبناؤنا هي الأخرى في زماننا في طريق الزوال، وعندما يأتي من بعدنا جيل جديد سوف يجد نفسه في بلد ليس يحمل من ماضيه إلا الذكريات التي أصبحت في ذمة التاريخ.

 أما الآن وقد أخذت صفحات تقويم الزمن تطوي سجل المعالم البيروتيّة إلى غير رجعة فإننا نبادر، قبل فوات الأوان، إلى تعريف أبناء اليوم على صورة هذه المعالم كما كانت في أوائل القرن العشرين بأسواقها وساحاتها وأحيائها لعلهم يجدون فيها لذة الاستماع بالمقارنة بين أمس مدينتهم وحاضرها وبين ما ستصبح عليه هذه المدينة خلال مستقبلها القريب.

 أكثر الأٍسواق البيروتيّة وأكثر المهن كانت تتمحور حول الجامع العمري الكبير، وحول المساجد الأخرى، وهو ما درجت عليه العادات العربيّة والإسلاميّة عند بناء المدن الجديدة، حيث كان يُبنى الجامع، وعلى أساس موقعه تتفرع منه الأسواق والشوارع والمحال.

تعى يا سل

 

ونعود بالتاريخ حول أسواق بيروت لنجد أن المحاولة الأولى الجادة لترتيب الأسواق بدأت منذ سنة 1860م حين حضر فؤاد باشا لتطويق حوادث تلك السنة فاتخذ من بيروت مركزاً له وبدأت تصدر القرارات والتدابير التنظيميّة. فتقرر وجوب حمل النور على كل من سار في الأسواق والطرقات ليلاً، ومنع لعب القمار في محل الإجتماعات . وتكرر سنة 1863م منع التجول ليلاً بدون مصباح وكلفت الضبطية أحضار كل من تراه كذلك وتوقيفه في السجن إلى الصباح. وفُرض على أصحاب الدكاكين والمخازن والمقاهي داخل المدينة وخارجها كنس أمام أبواب محلاتهم وتنظيف الأوساخ والنفايات ومنع جريان المياه على وجه الأرض وحّذر من السب والشتم المخل في الددين والناموس تحت طائلة المعاقبة.

كما صدر الأمر بقطع الدكاكين الخارجة بمصاطب في الأماكن الضيقة من الأسواق لتسهيل المرور وتحسين نظام البلدة بتوسيع شوارعها. وترتبت فرقة ضبطية خاصة لمعاقبة من يبول على الحيطان ويضع زنابيل وسحاحير وغيره أمام الدكاكين والمخازن، وتحصيل الجزاء النقدي من المخالفين. كما تعينت فرقة خاصة لمراقبة من يجول في الليل بلا فنار ويفتح مقهاه بعد الساعة التاسعة ليلاً.

 

وكانت الأسواق تفتح ليلاً في شهر رمضان، فصدرت تنبيهات الأهالي بأن يكون تجولهم بالأدب والإحتشام دون أدنى منازعة وأن يلتفت كل منهم إلى شغله وعمله ومعاطاة أسباب معاشه تحت طائلة التأديب اللازم. وعند حصول منازعة وسط الشارع والأسواق بين شخصين، وجب على من يوجد من الجيران، التفريق بينهما دون أن يتدخلوا في المنازعة أو يتعصب بعضهم لفريق تحت طائلة الجزاء.

ومنذ تولي فخري بك رئاسة بلديّة بيروت تقرر منع مرور الأغنام وباقي الحيوانات في وسط البلدة لما ينشأ عنها من تصاعد الغبار ومضايقة المرور ومنع سوق أكثر من ثلاثة حمير ناقلة الحجارة والرمال في البلدة وأمرت البلديّة سنة 1880م بمنع الأمور التالية:

·       طرح النفايات في الأزقة والساحات ومنع وضع الفروش والبراميل والزنابيل والسلال والقفف والبالات على الطرقات فارغة أو ممتلئة.

·       وضع (درواندات) (رفاريف) أمام الدكاكين ومجاوزة خزائن المساطر (الواجهات) عن حدود الدكان.

·       وضع الكراسي من القهوجيّة والخمرجيّة خارج دكاكينهم على الطرقات لأجل جلوس المشترين.

·       نصب جوادر (خيم) في الأزقة وبيع أشياء ضمنها في الفروش أو شيّ اللحم وطبخ الأطعمة في أبواب الدكاكين على المناقل والوجاقات المتنقلة.

·       نفخ صدور الدجاج والأوز والحبش وبيعها على هذه الصورة.

·       تسيير حيوانات في الأزقة ليلاً حيث لا أنوار.

·       فرش شوالات أو جلود أمام دكاكين الأصناف والبقالين والغسالين ونشر ملابس وأقمشة عليها لأجل تنشيفها.

·       جولان الحيوانات بدون رباط.

 

وكانت أغلب الأسواق القديمة على إسم صاحبها كسوق الأمير أمين وقيساريات أبي اللمع والشيخ شاهين تلحوق وسلمان الشهابي وعبد السلام عماد، ثم تلتها أسواق بأسماء عائلات المدينة، مثل أسواق حمادة وأياس وإدريس وسرسق وتويني وبسترس وسيّور ورعد وهاني وأبي النصر وبيهم وعيتاني. وكانت بعض الأسواق تنسب إلى سلعة معينة كأسواق الحرير والجوخ والزجاج (القزاز) والقطن والخضار والقطايف والنرابيج، فيما نسبت أسواق أخرى إلى أصحاب الصنعة كأسواق اللحامين والعقادين والنجارين والحدادين والمنجدين والأسكافة والبياطرة والبوابجيّة والعطارين والصاغة والشعارين )من صنع الشعاري) والشبقجيّة (من صنع الشبق أو الجبق).

 

نتيجة لتزاحم الأقدام عند أبواب المدينة دخولاً وخروجاً من المدينة وإليها، نشأت أسواق سميت بأسماء تلك الأبواب من ذلك:

·       سوق باب يعقوب وغلبت عليه دكاكين المنجدين قرب باب يعقوب.

·       سوق باب السراي وكان يُعرف أيضاً بسوق الفشخة، ويمتد من باب سراي الحكومة قرب جامع الأمير عسّاف إلى باب إدريس عند مدخل سوق الطويلة.

·       سوق باب الدركة أو الدركاه من رأس المعرض نزولاً حتى الجامع العمري الكبير.

·       سوق باب السنطيّة حول باب السنطيّة.

                 

  وقد وردت في الوثائق أسماء الأسواق التي ذكرناها سواء على إسم الصنف أو على إسم الصانع، كسوق الأسكاف في محلة الحدرة قرب شعبة المعارف وسوق البقر قرب جامع التوتة وسوق الكنائس في محلة الرجال الأربعين وسوق ميزان الحرير سفلي قيساريّة التوتة وسوق زاوية الشهداء قرب دار أبي عسكر وسوق التجّار وسوق ميناء بيروت في محلة المرفأ وسوق القيشاني وفيه بيوت آل الدهان.

 

يُذكر أن سوق البازركان الذي كان موقعه قرب جامع الأمير منذر وجامع شمس الدين كان قبل سنة 1264هـ يُعرف بسوق العقادين، وبعد التاريخ المذكور أصبح شهيراً بالبازركان على ما أثبتته الوثيقة المؤرخة في 19 ربيع الأول سنة 1264هـ والتي باع بموجبها عبد الله حسين البربير بوكالته عن والده وعن والدته حسنا سعيد نجا، إلى عبد الرحمن وعبد الله أحمد الطيّارة وإبراهيم يُوسُف سربيه، ربع دكان سفلي دار حسن الكوش البحري (الكاينة بسوق العقادين القديم الشهير الآن بسوق البازركان).

 

عن حالة الأسواق كتب داوود نقاش سنة 1894م يقول: (من تأمل في سوق الخضر الذي يكاد لا يبلغ عرضه أربعة أذرع، وأنه هو السوق المطروق أكثر من سواه، ورأى الفروش والسحاحير والسلال والأطباق والكراسي مكردسة تلالاً تلالاً على الجانبين أمام الحوانيت، وصاحب الحانوت وأولاده وحماره وخاروفه، حكم حالا بأن شكوى المارين هي بمحلها أيضاً... والألطف والأظرف من ذلك تبسيط بائعي البوظة في الأسوق ونشر أوايلهم مثل تنكة البوظة وعلبتها وصندوق الملح وطبق الثلج وتنكة الأقداح والملاعق والمنشار والمضرب والمقشط. وهكذا بائعي الحلاوة جزريّة وسكريّة وسمسميّة مع الفرش والسيبة، ومثلهم حاملي قرب السوس والليموناضة وبائعي المعلل والكعك والفول النابت. ومما يزيد على الطنبور نغمة هو تبسيط بائعي البضائع والأثمار بجوانب الحوانيت وفي زوايا الأسواق والطرقات، وعند الحشرة في وسط الطرقات، فضلاً عن مرور الدواب وعلى ظهرها قناطير مقنطرة من الشيح والجرار والسحاحير، ولا يسهى عن البال ساحة البرج الذي ظن البائعون أنهم أخذوا بها امتيازاً مخصوصاً لوضع فروشهم وسحاحيرهم في أي محل وأية نقطة استحسنوها... والذي يزيد الطين بلة هو مرور العربات كالبرق ...).

وكان للأسواق حراس من خدمة ااحكومة يجري عليهم الرزق من البلديّة، ثم أبطل هذا الأمر، فتوافق بعض من تجّار سوق الطويلة على إقامة خفراء من عامة الناس يحرسون مخازنهم ليلاً وفرضوا على أنفسهم أرزاقاً شهريّة لهم. ولم ير البعض الآخر فائدة في خفارة من ليس مسؤولاً لدى الحكومة عما يمكن أن يقع من سرقات. وشكا البعض من أنه أتى مخزنه فوجد في ثقب القفل رملاً وقطع حجارة وقشاً وورقاً ممضوغاً وقطعاً من الحديد وقش الكبريت، وطال مكتب جريدة التقدم بعض هذه الأفعال.

 

من الطريف الإشارة أخيراً إلى أن التجّار والباعة توسلوا في الدعاية والإعلان عن بضائعهم وترويجها وبيان منافعها للناس، إلى الشعر الموزون والشعر الشعبي والأمثال العاميّة والكنايات والطرائف والمحاورات، والإستشهاد بآراء المشاهير وشهاداتهم مما يعد سبقاً لبيروت على بقية العواصم العربيّة في عالم الدعاية والإعلان.

ومما شاع في الأسواق القديمة، لجوء التجّار إلى تعليق كتابات في محلاتهم ذات مدلول أخلاقي مستوحاة من التعاليم الدينيّة والأمثال الشعبيّة والحكم الأدبيّة، تجمع بين الذوق الفني واليد البارعة والإيجاز، وتدل على قدرة الشعب على تذوق حلاوة الإيجاز وتفهم جوامع الكلم المعروضة للسابلة. في المحلات التي تقدم فيها المأكولات والمشروبات كتبوا (كلو من طيبات ما رزقناكم) و(لئن شكرتم لأزيدنكم) و(سقاهم ربهم شراباً طهوراً) و(هذا من فضل ربي).

وكثيراً ما كانت تعلق في المحلات عبارة (القناعة كنز لا يفنى) و(من راقب الناس مات همًّا)، أو عبارات تندد بالحسد والحاسد مثل (الحسود لا يسود، عين الحاسد تبلى بالعمى، الحسد داء الجسد)، يروي المخضرمون أن أحد العطارين المتخذ دكاناً له في خان قرنفل علّق الأبيات الآتية على باب محله تقول:

أتدري على من أسأت الأدب ألا قل لمن كان لي حاسداً
كأنك لم ترض بما قـد وهب أسأت على الله في فعلـه
وسدّ عليك وجوه الطلـــب  فجازاك عني بما زادنـي

 

وإتخذ رجل من آل النقّاش محلاً في باب يعقوب بساحة عسّور لبيع أنواع العصي، فعلّق لوحة تحمل البيتين التاليين:

 برشيق القدّ أضحت عابثه  أهدت الأغضان للأيدي عصا
غدت للشيخ رجلاً ثالثـة وإلى الشبان أمست زينــة

 

                        

وعلّق آخرون عبارات كان القصد منها التخلص من محاولة بعض الزبائن الإستدانة، مثال قولهم: (الدين ممنوع والعتب مرفوع والرزق على الله، وبالدين حلاوة وبالوفاء عداوة، وعند العطا أحباب وعند الدفع عتاب).كتب بعضهم: (اليوم نقد وغداً دين) قياساً على قول امرئ القيس:(اليوم خمرٌ وغداً أمر). وكتب آخر:

 

 قد مضى عهد الديون قل لمن يطلب دينا
غير نقد لا يكـــون كل شيء تشتريـه

 

يذكر أن سروجيًّا من آل الجندي كان محله إلى يمين درج الأربعين علّق في صدر محله عبارة(إللي إلك إلك وإللي ما إلك محرّم عليك).

وكان بائع آخر علّق لوحة كتب فيها: (كيد النسا غلب كيد الرجال).

وكان الناس يتفائلون بعبارات جلب الرزق المعلّقة في الدكاكين، فقد ذكر مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر أن بعض التجّار طلب منه سنة 1235هـ 1819م أن يكتب له ورقة لجلب الرزق ليعلقها في حانوته، فألهمه الله أن كتب له خمسة أبيات راجيّاً من الله أن تكون سبباً لجلب رزقه وتوسيع معيشته عليه وأن يحقق ظنه وهي قوله:

يا رب واكشفْ ضُرَّنا

 يا ربِّ فاقبلْ عذرنا
 يُسْراً وحَلِّلْ عُسْرنـا واجعل لنا من أمرنا
واغْنِ إلهي فقرنــا كذاك وسِّعْ رزقنـا
رسالُه قد سرَّنـــا بجاه خير مُرسَـل
عليه ما ظَبيٌ رنـا صَلَّ وسلِّم سيَّـدي

//-->