أحمد زكي فلاح الشرقية بالكاد قال حبيبي

الملحق الثقافي لجريدة النهار 03/04/2005

 

محمد سويد - القاهرة

الله يكون في عونه ، قال سائق التاكسي تعقيباً على دخول أحمد زكي في غيبوبة لا شفاء منها. كنـّا نقطع الشوارع بسيّارة لادا اشتراكيّة الصنع يرجع عمرها إلى عهد ليونيد بريجنيـف أو ما قبل أفول غورباتشيوف، ملك البـيريسترويكا، وفريد شوقي، ملك التيرسو.

نهبت السيّارة الطرق المزدحمة بالمارّة والمركبات والدواب، وتحت الجسور المعلّقة في الهواء المفرط في تلوثه وروائحه القاتلة. إنها القاهرة، حللت فيها قبل نحو أسبوعين مصحوباً بخبر عاجل قرأته على شاشة قناة فضائيّة: أحمد زكي في حال حرجة. الفنان المصري يصارع الموت وأطباؤه يفقدون الأمل. ورد الخبر محشوراً وسط شريط متحرّك من الأنباء المتواترة عن انعقاد قمّة الجزائر في غياب ثلث القادة العرب وحلّ الأزمة الطارئة بين الأردن والعراق وإقدام رذيل على تفجير عبوة ناسفة في الكسليك.

بلهجة واثقة خالية من التردّد، أكـّد لي سائق التاكسي أنّ الريّس لن يتوانى عن قطع زيارته للجزائر لو قضى الله أمره وانتقل أحمد زكي إلى رحمته. ربنا يحميه ، أردف بصوته المبحوح وراح يحدثني في ألم شديد عن فقره وعذابه ويأسه من علاج زوجته المصابة بخلل صفائح الدم والمتروكة لبئس مصيرها في فراشها.

ابن التراب

غالباً ما كان كبار الممثلين المصريين وأوسعهم شهرة، نسخة عن شعبهم وأحبائهم من الموظفين وأصحاب المهن الحرّة وسائقي النقل العام وغلابة الحواري. يُزيّن لي أنّ عواطف هؤلاء الممثلين وانفعالاتهم الجيّاشة تنبع من زفت الشوارع الملتهبة بالحرّ وزحمة السير وغليان عرق الأجساد، وأنّ مثل نجيب محفوظ في خوفه من ركوب الطائرة وكره السفر ومؤاثرة البقاء في مدينته، يعكس طبعاً عامّاً من تعلق المصري بالبرّ، وما البرّ سوى الأرض أوّلاً وأخيراً. قوّة التقليد في السينما المصريّة هي من تماهيها في الأرض وأهلها، وما الأرض عوداً على بدء إلا برّ.

بلا ريب، كان أحمد زكي ممثلاً برّياً. على غرار سعاد حسني، شريكته في المسلسل التلفزيوني هو وهي والدراما السينمائية موعد على العشاء ورفيقة حلقة السمر وصحبة الشاعر الراحل صلاح جاهين وأخيراً جارة الثرى حيث أوصى بدفنه قرب ضريحها، تحدّر من سلالة الممثلين الترابيّين المطحونين في هوى المزاج وتقلب المشاعر، ومن القرية المقابلة لمسقط عبد الحليم حافظ في محافظة الشرقيّة وضفـاف بلدة الزقازيق، اكتملت ملامح الفلاح الأسمر المتنكر في رومنسيّة ابن المدينة.

قيل إن ارتواء مأساة عبد الحليم حافظ بصراعه المزمن مع البلهارسيا حملت أحمد زكي على إنهاء حياته بفيلم حليم يوم اكتشف استحالة تغلبه على سرطان الرئة. والأصحّ أن عودته إلى حكاية العندليب الأسمر إنـّما كانت رغبة في زيارة أخيرة لمحل ولادة فتى الزقازيق الأغرّ وسيرة الفلاح الشرقاوي، رجل التراب والعشب والحصى والبر اليابس.

أسمر يا اسمراني

طوبى له إذ حقّق في فيلمه الأخير غير المنتهي ما يصبو إليه عشاق التمثيل: الموت فوق خشبة المسرح. على ذمّة أحد العاملين في فيلم حليم ، كان آخر ما صوّره مشهد حفلة حيّة لعبد الحليم حافظ على خشبة مسرح. من المؤكـّد أنّ إصراره على تمثيل الفيلم عجّل في وفاته. أجهد نفسه. حاول تكثيف ساعات التصوير أملاً في إنجاز عمله في أسرع وقت. لم يستطع الوقوف أمام الكاميرا أكثر من أسبوعين. في اليوم الأخير، نصح له الطبيب المرافق بأخذ قدر من الراحة أثناء تأدية الأغنية، ذاك أنه جاء أصلاً إلى العمل بعد مراحل شاقة من العلاج أسفرت عن استئصال إحدى رئتيه ومن المعروف أنّ الغناء الحيّ لا يخلو من انفعال وتقلص وتمدّد في حركة الشرايين. لم يمتثل لنصيحة طبيبه. عاش الدور حتى النهاية. أصيب بجلطة في الساق. خارت قواه. بالكاد قال حبيبي ردّاً على صديق تأثر من رؤيته عاجزاً عن الصعود بمفرده إلى سيّارته. مثلما احتاج إلى من يعينه على ركوب السيّارة، بدا أحوج من يكون إلى المساعدة في الكلام ولو همساً. لفظ كلمة حبيبي بنبرة خفيضة متقطعة. في المستشفى، توالت الجلطات إلى أن سكت الدماغ. قبل أن يرقد في غيبوبته، ظلّ حاد الذاكرة. سأل ملبسه هل انتهى من خياطة بذلة عبد الحليم حافظ في الخمسينات ونام.  

أسمر يا اسمراني ، تمتم سائق اللادا تحسّراً. حملني صوته المبحوح بمصائب الدهر وغدره إلى عبد الحليم وشجنه وزمنه المستعاد في فيلم زوجة رجل مهم ، أحد أفضل أدوار أحمد زكي في رفقة ميرفت أمين والمخرج محمّد خان. ربما تكوين شخصية الزوجة المقهورة في أحاسيسها والغارقة في حنينها إلى أغاني أهواك و أنا لك على طول ، جعل ميرفت أمين أقرب مثالاً إلى عبد الحليم، غير أن ذوبان أحمد زكي في قسوة ضابط الأمن وجنون عظمته أعطى الوجه التراجيدي لرومنسية عبد الحليم عبر تجسيده شخصية زوج عاجز عن وقف سقوطه. الفرق بين أحمد و حليم ليس سوى الخيط الرفيع الفاصل بين الرقة الجارحة وشفافية القسوة. قبل خروج زوجة رجل مهم إلى العرض عام 1988، عرفني إليه محمد خان أثناء التصوير، ولما سعيت إلى تسجيل حوار معه، حذرني مساعدو المخرج من سوء مزاجه. الحال أنه بدا متوتراً وتصرف بلا مبالاة عندما طلبت منه موعداً لإجراء المقابلة بعد فراغه من العمل. طلبت منه تحديد الوقت حسبما يشاء. لم يسمع، أو الأحرى كمن تعمّد عدم سماع السؤال، انصرف إلى متابعة التحضيرات الجارية من حوله لتصوير اللقطة التالية وصرفت النظر عن رغبتي وما هي إلا بضع دقائق حتى فاجأني باستعداده لتسجيل المقابلة حيثما كنّا نقف.

الهمجي الحنون

حتى الآن، لا أدري ما إذا أجاب تماماً عن أسئلتي أو أنه أراد من سماع الأسئلة تمرين نفسه على الحوار في مكان التصوير. يحكي المشاركون في أفلامه أن مشاهدته على الشاشة أكثر إمتاعاً من العمل معه. لا يتمكن من دوره ما لم يتقمص الشخصية وينقل عدوى تقلباتها إلى محيطه. من عادة الممثل القدير الدخول في ما يسمّى جلد الشخصية المسندة إليه والانطواء على الذات. أما أحمد زكي فيتجاوز حدود الذات ولا يتورّع عن إشراك جميع الموجودين في البلاتو بما يتفاعل في دخيلته كاشفاً عن بارانويا تفوق التحمّل. رقيق في سرعة عطبه وعنيف إلى أقصى الهمجية، لا يرأف بحاله ولا بمن حوله، ومع ذلك حنون. اختزن في سرّه تأصله بطبع الفلاّح الشرقاوي الذي وإن اضطرّ إلى إظهار اللؤم لا يسعه إلا المسارعة في إماطة اللثام عن طيبته.

حين أذكره في أجمل لحظات تجليه على الشاشة، لا تستوقفني كلماته أو طواعيّة جسمه في التمثيل قدر ما تأسرني الثواني الخاطفة لنظرة من عينيه. نادراً ما أعطى ممثل للكاميرا نظرة تختلس الصفح وتنتزعه من قلب المُشاهد بحيث تحيل قسوته حناناً وتميد في خفّة الروح وإنس العشرة.

على هدي نظرته، كان أحمد زكي فريد أصالته في العوّامة 70 لخيري بشارة و اسكندريّة ... ليه؟ ليوسف شاهين و عيون لا تنام لرأفت الميهي و البريء لعاطف الطيّب و أحلام هند وكاميليا لمحمد خان. بالنظرة نفسها، جعل عبد الناصر وحيد عصره وحوّل السادات من رجل مثير للرفض والجدال إلى شخصيّة مقبولة على الشاشة وقابلة للأخذ والردّ.

مع ناصر 56 لمحمد فاضل و أيام السادات لمحمد خان و حليم لشريف عرفة، تراءى كأنه آثر العودة إلى ممارسة هوايته القديمة نفسها، التقليد، أو استهوى إرجاع مهنة الممثل إلى تعريفها المبسط في صحافة مصر أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين: المشخصاتي. شيء ما تغيّر.

عندما تخرّج من معهد الفنون المسرحيّة عام 1973 وراح يظهر في مسرحيات مدرسة المشاغبين و أولادنا في لندن و العيال كبرت ، لم يرضه غير العمل في السينما. في وقت ما، كان روبرت دو نيرو ومارتن سكورسيزي شعار السينما الجديدة في نيويورك. وفي القاهرة، كان أحمد زكي بطل السينما الجديدة. لم يغب عن باله أن القاهرة ليست نيويورك. لعله كفاه الحلم  في أرض النيل والزحمة والبلهارسيا، فما الأرض إلاّ حلم في بر أمان ولو فسُد هواؤه وداوى حزنه بالحزن.

لحظة مروري في باب اللوق، استسلمت لغيبوبة الأيام مستعيداً صوت أحمد زكي مغنيّاً أوقاتي بتحلوّ لسيّد مكاوي. في حفل عشاء خاص أعقب نهاراً متعباً من مهرجان القاهرة السينمائي، جلست قبالته ولا أذكر ما إذا كان مدعوو الحفل ليلتئذ مهتمّين بسماع صوته أو الاستئناس بالجلوس في جواره والتأمل في محيّاه. كان غناؤه وحضوره نادرين في حضرة ساهرين مجهولين عرفوه على الشاشة أكثر مما جمعتهم به المصادفة. أكثر من عندليب أسمر، رأيته عندليباً وأسمر. في ذروة إنشاده ونشوة إدائه، ضاعت سمرة بشرته وذابت في ظلال أضواء خافتة. كأنه اتشح بظلمة كسرها تلألؤ عينيه في دفء الليل وحياء عتمته. بالكاد قال حبيبي. رحل عن 56 عاماً و56 فيلماً. ربنا يرحمه ، همست في أذن سائق اللادا وكان ما كان.

عودة إلى الصفحة الرئيسيّة للشخصيات العربيّة

  //-->